على عكس عدد من الأديان الشرق آسيوية ذائعة الانتشار التي لم تولِ اهتماماً يذكر بمسألة النبوة، فإننا نجد أن الأديان الإبراهيمية الكبرى -اليهودية والمسيحية والإسلام- قد عرفت منصب النبي/ الرائي/ الرسول منذ فترة مبكرة من تاريخها، فعدته المسؤول الأول عن تبليغ مراد الله للجماعة المؤمنة، واعتقدت أنه الشخص المُكلف بتلقي النصوص الإلهية المقدسة وتفسيرها لأتباعه.
مركزية النبوة في الأديان الإبراهيمية، دفعت بكثير من الباحثين -قديماً وحديثاً- للتفكر في طبيعتها ووظائفها ومحدداتها. في هذا السياق، كان السؤال المطروح حول عصمة الأنبياء ومدى إمكانية اقترافهم المعاصي والذنوب والآثام، أحد أهم الأسئلة التي شهدت مجموعة متباينة من الإجابات بحسب المبادئ والأصول الحاكمة في كل نسق ديني من الأنساق الثلاثة.
يظهر النبي/ الرائي في العهد القديم، على كونه الشخص المسؤول عن الإعلان عن أهداف الإله، وإخبار المؤمنين ببعض الأحداث التي ستقع في المستقبل في صورة نبوءات موجهة للشعب عموماً،وللحكام والملوك على وجه الخصوص.
على الرغم من أن كثيراً من أنبياء بني إسرائيل قد عُرفوا بصدقهم وإخلاصهم ليهوه، إلا أن أسفار العهد القديم قد أظهرت كثيراً منهم في صورة موظفين مُعينين في البلاط الملكي، وقد سُمي هؤلاء بالأنبياء المحترفين، تمييزاً لهم عن بقية الأنبياء الذين اختارهم الله بنفسه لتوصيل كلمته.
مما تجدر ملاحظته هنا، أن العهد القديم لم يحرص على تقديم الأنبياء في صورة إيجابية دائماً، الأمر الذي يتماشى مع الصورة التي قدم بها إله بني إسرائيل -يهوه/ إلوهيم- نفسه، إذ لم يكن معصوماً عن بعض الانفعالات التي لا تتماشى مع الصورة المثالية المتوقعة للإله السرمدي، كلي القدرة، فهو يغضب في بعض الأحيان ويندم في أحيان أخرى.
في سفر التكوين، وردت عديد من الأخبار عن اقتراف بعض الآباء الكبار لأنواع مختلفة من المعاصي والكبائر، ومن ذلك أن آدم قد عصا الرب حينما أكل من الشجرة المحرمة، وأن نوحاً قد شرب الخمر وتعرى بعد أن انتهى الطوفان، كما أن لوطاً قد وقع في خطيئة الزنا مع ابنتيه أثناء سكره وغيابه عن الوعي، أما إبراهيم -أبو الأنبياء- فقد ورد في قصته أنه قد طلب من زوجته سارة أن تكذب، فقال لها عندما وصلا إلى أرض مصر «قُولِي إِنَّكِ أُخْتِي، لِيَكُونَ لِي خَيْرٌ بِسَبَبِكِ وَتَحْيَا نَفْسِي مِنْ أَجْلِكِ».
في سفر الخروج، ورد الحديث عن الخطيئة الكبرى التي اقترفها النبي هارون، عندما صنع العجل الذهبي لبني إسرائيل أثناء صعود موسى لجبل سيناء لتلقي أوامر الرب، وكذلك تحدث سفر صموئيل الثاني عن وقوع الملك داود في خطيئة الزنا «فأرسل داود وسأل عن المرأة، فقال واحد: أليست هذه بثشبع بنت أليعام امرأة أوريا الحثي. فأرسل داود رسلاً وأخذها، فدخلت إليه، فاضطجع معها وهي مطهرة من طمثها. ثم رجعت إلى بيتها. وحبلت المرأة، فأرسلت وأخبرت داود وقالت: إني حبلى»، وقد بيّن السِفر كيف تضاعفت خطيئة داود بعدما دبر لقتل أوريا الحثي في إحدى المعارك، ليتمكن من الزواج بأرملته بعد ذلك.
الملك سليمان بدوره، نال حظه من تلك الخطايا والآثام، إذ تحدث سفر الملوك الأول عن انحرافه عن عبادة يهوه، تحت تأثير نسائه الأجنبيات «فَذَهَبَ سُلَيْمَانُ وَرَاءَ عَشْتُورَثَ إِلهَةِ الصِّيدُونِيِّينَ، وَمَلْكُومَ رِجْسِ الْعَمُّونِيِّينَ. وَعَمِلَ سُلَيْمَانُ الشَّرَّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ، وَلَمْ يَتْبَعِ الرَّبَّ تَمَامًا كَدَاوُدَ أَبِيهِ».
في بعض الأحيان، وردت بعض التفصيلات التي عملت على تحسين الصورة السلبية لأنبياء بني إسرائيل، ومن ذلك ما ورد في الإصحاح السادس من سفر دانيال، عندما وصف هذا النبي الذي عاش في بلاد الرافدينإبان حقبة السبي البابلي، بالأمانة وببعده عن الأخطاء والذنوب، حتى إن رجال البلاط البابلي لما أرادوا أن يعثروا على نقطة ضعفه، ليوقعوا به عند الملك بختنصر، فإنهم لم يتمكنوا من ذلك، إذ «لَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَجِدُوا عِلَّةً وَلاَ ذَنْبًا، لأَنَّهُ كَانَ أَمِيناً وَلَمْ يُوجَدْ فِيهِ خَطَأٌ وَلاَ ذَنْبٌ».
تؤمن المسيحية أن الخطيئة الأولى التي وقعت على يد آدم وحواء قد انتقلت لجميع أفراد الجنس البشري على حد سواء، الأمر الذي ظهر بشكل واضح في عدد من الإعلانات التي وردت في الكتاب المقدس، في أكثر من موضع.
على سبيل المثال، ورد في سفر إشعيا «كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَرِيقِهِ، وَالرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا»، كما ورد على لسان داود في سفر المزامير «هأَنَذَا بِالإِثْمِ صُوِّرْتُ، وَبِالْخَطِيَّةِ حَبِلَتْ بِي أُمِّي». الأمر نفسه تم التأكيد عليه في العهد الجديد، لا سيما في رسائل بولس الرسول، إذ جاء في رسالته إلى أهل غلاطية «لكِنَّ الْكِتَابَ أَغْلَقَ عَلَى الْكُلِّ تَحْتَ الْخَطِيَّةِ، لِيُعْطَى الْمَوْعِدُ مِنْ إِيمَانِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ لِلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ»، كما ورد في رسالته إلى أهل رومية «الْجَمِيعُ زَاغُوا وَفَسَدُوا مَعاً. لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحاً لَيْسَ وَلاَ وَاحِدٌ».
من هنا، فان المعتقد المسيحي التقليدي، قد ساير المعتقد اليهودي في القول بإمكانية وقوع الأنبياء في الزلل والخطيئة، وعمل المسيحيون على الاستشهاد بكل قصة من قصص تلك الخطايا، في سبيل إثبات عجز البشر عن الكمال، واحتياجهم الضروري للعناية الإلهية، والتأكيد على أن يسوع المسيح هو الوحيد القادر على غفران جميع تلك الزلات والخطايا.
الأمر الذي تجلى في الاعتقاد المسيحي الذي يذهب إلى أن المسيح بعد صلبه قد نزل إلى جهنم وأخرج منها الآباء الكبار وأنبياء بني إسرائيل، وعلى رأسهم كل من: آدم، ونوح، وإبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، وموسى. بناء على كل ما سبق، فإن الدكتورة نبيلة توما في كتابها «من إجابات أسئلة سفر التكوين»، قد عملت على توضيح الرأي المسيحي الرافض لفكرة عصمة الأنبياء، عندما قالت، «لم يقدم لنا الكتاب المقدَّس رجال الله وأنبياءه كأناس معصومين من الخطأ، لأن جميع البشر معرضين للخطأ، والله جابلنا يعرف ضعفاتنا...».
يؤمن جميع المسلمين بأن الأنبياء والرسل هم الواسطة بين الله والناس، وأنهم لما كانوا المكلفين بنقل الشريعة والأوامر الإلهية للبشر، فإنهم أفضل الخلق وأعظمهم شأناً ومنزلةً، هذا فضلاً عن كونهم أحسن الناس خلقاً وأدباً وطاعةً لله. من هنا، فإن المسلمين جميعاً يعتقدون بعصمة الأنبياء والرسل، بمعنى أنهم محفوظون من الخطأ في ما يتعلق بمهام نقل الرسالة والوحي.
رغم ذلك فإن الفرق الإسلامية قد شهدت خلافاً واسعاً حول تعيين شكل ومحددات تلك العصمة، فانقسموا في تلك المسألة لمجموعة من الآراء المتباينة. أول تلك الآراء، كان رأي كثير من أهل السنة والجماعة، وأغلبية المعتزلة، الذين استدلوا بظاهر بعض الآيات القرآنية التي تثبت وقوع الأنبياء في بعض الذنوب، فذهبوا إلى أن الرسل والأنبياء معصومون من الكبائر دون الصغائر، وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية الحراني المتوفى 728هـ في كتاب مجموع الفتاوى «القول إن الأنبياء معصومون من الكبائر دون الصغائر هو قول أكثر علماء الإسلام، وجميع الطوائف، حتى إنه قول أكثر أهل الكلام... وهو أيضاً قول أكثر أهل التفسير والحديث والفقهاء، بل لم يُنقل عن السلف والأئمة والصحابة والتابعين وتابعيهم إلاّ ما يوافق هذا القول...».
أما ثاني تلك الآراء، فهو رأي الأشاعرة الذين مالوا للقول بعصمة الأنبياء من الكبائر والصغائر، وفي ذلك يقول عبد الكريم الشهرستاني المتوفى 548ه في كتابه «نهاية الإقدام في علم الكلام»: «القول الصحيح: إن الأنبياء معصومون عن الذنوب الصغيرة كما أنهم معصومون عن الذنوب الكبيرة؛ لأن الصغائر لو تكررت تبدلت إلى كبائر». في السياق نفسه، ذهب الأشاعرة إلى أن جميع ما ورد في القرآن والسنة والنبوية عن ذنوب الأنبياء، إنما يرجع إلى كونهم -أي الأنبياء- قد اقترفوا تلك الذنوب قبل بعثتهم.
أما الرأي الثالث، فهو رأي الشيعة الإمامية، وبعض من تابعهم من الإباضية وغير ذلك من الفرق، وقد ذهبوا إلى أن الأنبياء معصومون عصمة تامة عن الكبائر والصغائر، وأن عصمتهم قد سبقت البعثة، واستمرت بعدها طوال حياتهم، وقد وضح هذا الرأي فيما ذكره محمد بن علي بن بابويه القمي، المعروف بالشيخ الصدوق، والمتوفى 381هـ، في كتابه الاعتقادات في دين الإمامية، إذ يقول، «اعتقادنا في الأنبياء والرسل... أنهم معصومون مطهرون من كل دنس، وأنهم لا يذنبون ذنباً صغيراً ولا كبيراً، ولا يعصون ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، ومن نفى عنهم العصمة في شيء من أحوالهم فقد جهلهم، ومن جهلهم فهو كافر...».
هذا التأكيد على عصمة الأنبياء توافق بشكل واضح مع أصول المعتقد الشيعي الإمامي، ذلك الذي يذهب إلى عصمة الأئمة الاثني عشر، باعتبارهم حجج الله على خلقه، والخلفاء الشرعيين الذين أوكلت إليهم مهمة الإشراف على الدنيا والدين بعد وفاة الرسول وانتهاء عصر النبوة، ومن ثم يمكن رصد الارتباط القائم بين الديني والسياسي في تلك المسألة، ويمكن فهم حرص الشيعة الإمامية على القول بالعصمة المطلقة للرسول، للدرجة التي حدت بالأغلبية الغالبة من علمائهم لنفي السهو عن النبي.
المصادر الشيعية عملت على فهم وتفسير الآيات والأحاديث التي تحدثت عن ذنوب الأنبياء، بالشكل الذي يتفق مع مفهومهم لمعنى العصمة، على سبيل المثال رفض الشيعة ما جاء في صحيح البخاري بخصوص كذب النبي إبراهيم على ملك مصر عندما قال له إن سارة هي أخته، ورفضوا الاعتقاد أن ما ورد في مطلع سورة عبس من معاتبة، كان موجهاً للرسول، وقالوا إن الخطاب كان موجهاً إلى أحد الصحابة.
أما في ما يخص الآيات الصريحة التي تحدثت عن ذنوب الأنبياء، فإن أئمة الشيعة قد عملوا على تأويلها بكل وسيلة ممكنة، ومن ذلك ما ذكره الصدوق في كتابه «عيون أخبار الرضا»، من أن الإمام الثامن علي الرضا قد وضح وجهة النظر الشيعية في تلك الآيات في إحدى المناظرات التي شارك بها في مجلس الخليفة العباسي عبدالله المأمون، ففسر ما ورد في سورة طه «وعصى آدم ربه فغوى»، بأن ذلك كان في الجنة، وقبل النزول إلى الأرض وبدء التكليف، كما تعرض لما ورد في سورة الأنبياء بشأن النبي يونس «وَذَا النُّون إذ ذهبَ مُغاضباً فَظَنَّ أن لن نقدِرَ عليه»، فقال إن معناها أن يونس قد ظن أن الله لن يقدر عليه، بمعنى أنه لن يضيق عليه رزقه، فيما فسر ما ورد في سورة يوسف من همّ النبي يوسف بن يعقوب بامرأة العزيز، بقوله «لقد همَّت به، ولولا أن رأى برهان ربه لهمَّ لها كما همَّت به، لكنه كان معصوماً والمعصوم لا يهم بذنب ولا يأتيه».